بقلم رزان الكيلاني
لطالما شكل بر الوالدين ركيزة أساسية في المجتمعات العربية والإسلامية عبر الأجيال، حيث كانت أمهات الأمس ينعمون بالاحترام العميق والرعاية المستمرة من أبنائهم. هذا البر لم يكن وليد الصدفة، بل كان نتاجاً طبيعياً لنسيج اجتماعي متكامل وتعليم قيمي متين. أما اليوم، فنشهد تحولاً مقلقاً في العلاقات الأسرية، حيث يتزايد عقوق الوالدين وجحود فضليهما، ليس بسبب تقصير في التربية، بل بسبب الغزو الثقافي الرقمي الذي يشوه صورة الوالدين في عيون أبنائهم.
مجتمع الماضي: حاضنة القيم والتكريم
في الماضي، كان المجتمع بكل مكوناته يعمل بتناغم لترسيخ قيمة الوالدين. فالمدرسة كانت تدرّس للأطفال فضل الأم والأب، من خلال مناهج تعلي من شأن البر والطاعة، وتقدم نماذج عملية من التراث الإسلامي والعربي تظهر مكانة الوالدين. كما كان المعلمون يمثلون قدوة عملية، يعززون هذه القيم داخل الفصل وخارج.
أما المجتمع المحلي فكان رقيباً طبيعياً على السلوك، يشجع البر ويستنكر العقوق. كانت الجدة والخالة والجيران جميعاً شركاء في تعزيز احترام الوالدين. لم يكن البر مجرد واجب أخلاقي فحسب، بل كان انعكاساً لهوية مجتمعية متكاملة، حيث تنتقل القيم من جيل إلى جيل في حلقة متصلة.
الغزو الرقمي: إعادة تشكيل الوعي بقسوة
في عصرنا الحالي، تغيرت المعادلة بشكل جذري. لقد أصبحت الثقافة الغربية الرقمية هي المربية الأولى لأطفالنا، تقدم لهم محتوى غير خاضع للرقابة، غالباً ما يقلل من شأن الوالدين ويصورهما كمصدر للإزعاج والقيود. فبرامج الأطفال والمراهقين الغربية تعزز الفردية المطلقة والتمرد على السلطة الأبوية، وتقدم النموذج “البارد” للوالدين الذي لا يفهم احتياجات العصر.
وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الفيديو تنقل ثقافة الاستهانة بالكبار، حيث يظهر الآباء والأمهات في مقاطع كوميدية بشكل يثير السخرية، أو يصورون على أنهم عائق أمام حرية الأبناء. هذا التشويه المتعمد لصورة الوالدين يهز مكانتهم في نفوس الأبناء، ويجعل جهودهم في التربية والتضحيات اليومية تبدو تافهة وغير ذات قيمة.
جحود غير مبرر
الأمر الأكثر إيلاماً أن هذا الجحود يحدث في وقت يواصل فيه الوالدان بذل الجهود الجبارة ذاتها، بل وقد تزيد تضحياتهم في هذا العصر. فهم يعملون لساعات أطول لتوفير متطلبات الحياة المتزايدة، ويبذلون قصارى جهدهم لمواكبة العصر الرقمي الذي يفوقهم أبناؤهم معرفة به. ومع ذلك، يجدون أنفسهم في موقع الاتهام الدائم بعدم الفهم و”الرجعية” و”التخلف”.
هذه المعادلة غير العادلة تخلق فجوة عاطفية مؤلمة، حيث يشعر الوالدان بالإحباط عندما يرى تضحيهما تذهب سدى، ويشعر الأبناء بالانفصال عن والديهم الذين يبدون في أعينهم “غير كافيين” مقارنة بالنماذج التي يرونها على الشاشات.
نحو مصالحة بين الأصالة والحداثة
لمواجهة هذا التحدي، لا بد من عودة جماعية إلى تأكيد هويتنا القيمية. يجب أن تعيد الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني اكتشاف أدوارهم في مواجهة هذا الغزو الثقافي. يمكن ذلك من خلال:
- تطوير مناهج تعليمية تدمج بين متطلبات العصر وقيمنا الأصيلة.
- إنتاج محتوى عربي رقمي يعزز قيم البر وصلة الرحم.
- فتح حوار عائلي حول تأثير المحتوى الرقمي وإدارة استهلاكه.
- تقديم نماذج شبابية ناجحة تفتخر ببرها لوالديها.
ختاماً، إن التحدي الذي نواجهه اليوم ليس حتمياً، بل هو نتيجة لتراجعنا عن أدوارنا التربوية. بإمكاننا أن نستعيد التوازن في علاقاتنا الأسرية، من خلال وعي أكبر بتأثير الثقافة الرقمية، وإصرار على الحفاظ على قيمنا التي شكلت هويتنا لقرون. فالوالدان اللذان يبذلان الغالي والنفيس لأبنائهما يستحقان أكثر من مجرد بر، يستحقان أن نحمي مكانتهما من أي تشويه، وأن نعيد للأسرة توازنها العاطفي والأخلاقي.
*المدرّبة رزان الكيلاني، مدرّبة ومعلمة معتمدة من ICA، ومدرّبة رئيسية معتمدة من الاتحاد الدولي للمدربين (ICF MCC)، ومدرّبة في الذكاء العاطفي




